الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد والخرقي أن الطلاق يقع بهذه الكنايات من غير نية كقول مالك لأنه اشتهر استعمالها فيه, فلم تحتج إلى نية كالصريح ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يقع إلا بنية لقوله: وإذا أتى بصريح الطلاق وقع نواه أو لم ينوه فمفهومه أن غير الصريح لا يقع إلا بنية ولأن هذا كناية فلم يثبت حكمه بغير نية, كسائر الكنايات. والكناية ثلاثة أقسام ظاهرة وهي ستة ألفاظ خلية وبرية, وبائن وبتة وبتلة, وأمرك بيدك الحكم فيها ما بيناه في هذا الفصل وإن قال: أنت طالق بائن أو ألبتة فكذلك إلا أنه لا يحتاج إلى نية لأنه وصف بها الطلاق الصريح وإن قال: أنت طالق لا رجعة لي عليك وهي مدخول بها فهي ثلاث قال أحمد: إذا قال لامرأته: أنت طالق لا رجعة فيها, ولا مثنوية هذه مثل الخلية والبرية ثلاثا هكذا هو عندي وهذا قول أبي حنيفة وإن قال: ولا رجعة لي فيها بالواو, فكذلك وقال أصحاب أبي حنيفة: تكون رجعية لأنه لم يصف الطلقة بذلك وإنما عطف عليها ولنا أن الصفة تصح مع العطف, كما لو قال: بعتك بعشرة وهي مغربية صح وكان صفة للثمن قال الله تعالى: والطلاق الواقع بالكنايات رجعي ما لم يقع الثلاث في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة كلها بوائن إلا: اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة لأنها تقتضي البينونة, فتقع البينونة كقوله: أنت طالق ثلاثا ولنا أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد, فوجب أن يكون رجعيا كصريح الطلاق وما سلموه من الكنايات وقولهم: إنها تقتضي البينونة قلنا: فينبغي أن تبين بثلاث لأن المدخول بها لا تبين إلا بثلاث أو عوض. فأما ما لا يشبه الطلاق, ولا يدل على الفراق كقوله: اقعدي وقومي وكلي واشربي واقربي وأطعميني واسقيني وبارك الله عليك وغفر الله لك وما أحسنك وأشباه ذلك فليس بكناية, ولا تطلق به وإن نوى لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق فلو وقع الطلاق به لوقع بمجرد النية, وقد ذكرنا أنه لا يقع بها وبهذا قال أبو حنيفة واختلف أصحاب الشافعي في قوله: كلي واشربي فقال بعضهم: كقولنا وقال بعضهم: هو كناية لأنه يحتمل: كلي ألم الطلاق واشربي كأس الفراق فوقع به كقولنا: ذوقي, وتجرعي ولنا أن هذا اللفظ لا يستعمل بمفرده إلا فيما لا ضرر فيه كنحو قوله تعالى: فإن قال: أنا منك طالق أو جعل أمر امرأته بيدها, فقالت: أنت طالق لم تطلق زوجته نص عليه في رواية الأثرم وهو قول ابن عباس والثوري, وأبي عبيد وأصحاب الرأي وابن المنذر وروي ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وقال مالك, والشافعي: تطلق إذا نوى به الطلاق وروي نحو ذلك عن عمر وابن مسعود وعطاء, والنخعي والقاسم وإسحاق لأن الطلاق إزالة النكاح, وهو مشترك بينهما فإذا صح في أحدهما صح في الآخر ولا خلاف في أنه لا يقع به الطلاق من غير نية ولنا أنه محل لا يقع الطلاق بإضافته إليه من غير نية, فلم يقع وإن نوى كالأجنبي ولأنه لو قال: أنا طالق ولم يقل: منك لم يقع, ولو كان محلا للطلاق لوقع بذلك كالمرأة ولأن الرجل مالك في النكاح, والمرأة مملوكة فلم يقع إزالة الملك بإضافة الإزالة إلى المالك كالعتق, ويدل على هذا أن الرجل لا يوصف بأنه مطلق بخلاف المرأة وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: ملكت امرأتي أمرها فطلقتني ثلاثا فقال ابن عباس: خطأ الله نواها, إن الطلاق لك وليس لها عليك رواه أبو عبيد والأثرم واحتج به أحمد وإن قال: أنا منك بائن أو بريء فقد توقف أحمد فيه قال أبو عبد الله بن حامد: يتخرج على وجهين أحدهما, لا يقع لأن الرجل محل لا يقع الطلاق بإضافة صريحه إليه فلم يقع بإضافة كنايته إليه كالأجنبي والثاني, يقع لأن لفظ البينونة والبراءة يوصف بهما كل واحد من الزوجين يقال: بان منها وبانت منه وبرئ منها, وبرئت منه وكذلك لفظ الفرقة يضاف إليهما قال الله تعالى: قال: [وإذا أتى بصريح الطلاق لزمه نواه, أو لم ينوه] قد ذكرنا أن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية بل يقع من غير قصد ولا خلاف في ذلك ولأن ما يعتبر له القول يكتفى فيه به, من غير نية إذا كان صريحا فيه كالبيع وسواء قصد المزح أو الجد لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح, والطلاق والرجعة) رواه أبو داود والترمذي, وقال: حديث حسن قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن جد الطلاق وهزله سواء روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود ونحوه عن عطاء, وعبيدة وبه قال الشافعي وأبو عبيد قال أبو عبيد: وهو قول سفيان وأهل العراق فأما لفظ الفراق والسراح, فينبي على الخلاف فيه فمن جعله صريحا أوقع به الطلاق من غير نية ومن لم يجعله صريحا لم يوقع به الطلاق حتى ينويه ويكون بمنزلة الكنايات الخفية. فإن قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق أو قال لحماته: ابنتك طالق ولها بنت سوى امرأته أو كان اسم زوجته زينب, فقال: زينب طالق طلقت زوجته لأنه لا يملك طلاق غيرها فإن قال: أردت الأجنبية لم يصدق نص عليه أحمد في رجل تزوج امرأة فقال لحماته: ابنتك طالق وقال: أردت ابنتك الأخرى, التي ليست بزوجتي فقال: يحنث ولا يقبل منه وقال في رواية أبي داود, في رجل له امرأتان اسماهما فاطمة فماتت إحداهما, فقال: فاطمة طالق ينوي الميتة فقال: الميتة تطلق قال أبو داود: كأنه لا يصدقه في الحكم وقال القاضي, فيما إذا نظر إلى امرأته وأجنبية فقال: إحداكما طالق وقال: أردت الأجنبية فهل يقبل؟ على روايتين وقال الشافعي: يقبل ها هنا, ولا يقبل فيما إذا قال: زينب طالق وقال: أردت أجنبية اسمها زينب لأن زينب لا يتناول الأجنبية بصريحه بل من جهة الدليل وقد عارضه دليل آخر وهو أنه لا يطلق غير زوجته أظهر, فصار اللفظ في زوجته أظهر فلم يقبل خلافه أما إذا قال: إحداهما فإنه يتناول الأجنبية بصريحه وقال أصحاب الرأي, وأبو ثور: يقبل في الجميع لأنه فسر كلامه بما يحتمله ولنا أنه لا يحتمل غير امرأته على وجه صحيح فلم يقبل تفسيره بها, كما لو فسر كلامه بما لا يحتمله وكما لو قال: زينب طالق عند الشافعي وما ذكروه من الفرق لا يصح, فإن إحداكما ليس بصريح في واحدة منهما إنما يتناول واحدة لا بعينها وزينب يتناول واحدة لا بعينها, ثم تعينت الزوجة لكونها محل الطلاق وخطاب غيرها به عبث كما إذا قال: إحداكما طالق ثم لو تناولها بصريحه لكنه صرفه عنها دليل, فصار ظاهرا في غيرها ولما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمتلاعنين: " أحدكما كاذب " لم ينصرف إلا إلى الكاذب منهما وحده ولما قال حسان, يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا سفيان: فشركما لخيركما الفداء لم ينصرف شرهما إلا إلى أبي سفيان وحده وخيرهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده وهذا في الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى, فيدين فيه فمتى علم من نفسه أنه أراد الأجنبية لم تطلق زوجته لأن اللفظ محتمل له, وإن كان غير مقيد ولو كانت ثم قرينة دالة على إرادته الأجنبية مثل أن يدفع بيمينه ظلما أو يتخلص بها من مكروه, قبل قوله في الحكم لوجود الدليل الصارف إليها وإن لم ينو زوجته ولا الأجنبية طلقت زوجته لأنها محل الطلاق, واللفظ يحتملها ويصلح لها ولم يصرفه عنها فوقع به, كما لو نواها. فإن كانت له امرأتان حفصة وعمرة فقال: يا حفصة فأجابته عمرة فقال: أنت طالق فإن لم تكن له نية, أو نوى المجيبة وحدها طلقت وحدها لأنها المطلقة دون غيرها وإن قال: ما خاطبت بقولي: أنت طالق إلا حفصة وكانت حاضرة, طلقت وحدها وإن قال: علمت أن المجيبة عمرة فخاطبتها بالطلاق وأردت طلاق حفصة طلقتا معا, في قولهم جميعا وإن قال: ظننت المجيبة حفصة فطلقتها طلقت حفصة رواية واحدة وفي عمرة روايتان إحداهما, تطلق أيضا وهو قول النخعي وقتادة والأوزاعي, وأصحاب الرأي واختاره ابن حامد لأنه خاطبها بالطلاق وهي محل له فطلقت, كما لو قصدها والثانية لا تطلق وهو قول الحسن والزهري, وأبي عبيد قال أحمد في رواية مهنا, في رجل له امرأتان فقال: فلانة أنت طالق فالتفتت فإذا هي غير التي حلف عليها, قال: قال إبراهيم: يطلقان والحسن يقول: تطلق التي نوى قيل له: ما تقول أنت؟ قال: تطلق التي نوى ووجهه أنه لم يقصدها بالطلاق فلم تطلق كما لو أراد أن يقول: أنت طاهر فسبق لسانه, فقال: أنت طالق وقال أبو بكر: لا يختلف كلام أحمد أنها لا تطلق وقال الشافعي: تطلق المجيبة وحدها لأنها مخاطبة بالطلاق فطلقت كما لو لم ينو غيرها, ولا تطلق المنوية لأنه لم يخاطبها بالطلاق ولم تعترف بطلاقها وهذا يبطل بما لو علم أن المجيبة عمرة, فإن المنوية تطلق بإرادتها بالطلاق ولو لا ذلك لم تطلق بالاعتراف به لأن الاعتراف بما لا يوجب لا يوجب ولأن الغائبة مقصودة بلفظ الطلاق, فطلقت كما لو علم الحال وإن أشار إلى عمرة فقال: يا حفصة أنت طالق وأراد طلاق عمرة, فسبق لسانه إلى نداء حفصة طلقت عمرة وحدها لأنه لم يرد بلفظه إلا طلاقها وإنما سبق لسانه إلى غير ما أراده, فأشبه ما لو أراد أن يقول: أنت طاهر فسبق لسانه إلى أنت طالق وإن أتى باللفظ مع علمه أن المشار إليها عمرة طلقتا معا عمرة بالإشارة إليها, وإضافة الطلاق إليها وحفصة بنيته وبلفظه بها وإن ظن أن المشار إليها حفصة, طلقت حفصة وفي عمرة روايتان كالتي قبلها. وإن لقي أجنبية, ظنها زوجته فقال: فلانة أنت طالق فإذا هي أجنبية طلقت زوجته, نص عليه أحمد وقال الشافعي: لا تطلق لأنه خاطب بالطلاق غيرها فلم يقع كما لو علم أنها أجنبية, فقال: أنت طالق ولنا أنه قصد زوجته بلفظ الطلاق فطلقت, كما لو قال: علمت أنها أجنبية وأردت طلاق زوجتي وإن قال لها: أنت طالق ولم يذكر اسم زوجته احتمل وذلك أيضا لأنه قصد امرأته بلفظ الطلاق, واحتمل أن لا تطلق لأنه لم يخاطبها بالطلاق ولا ذكر اسمها معه وإن علمها أجنبية وأراد بالطلاق زوجته, طلقت وإن لم يردها بالطلاق لم تطلق. وإن لقي امرأته فظنها أجنبية, فقال: أنت طالق أو تنحي يا مطلقة أو لقيأمته فظنها أجنبية, فقال: أنت حرة أو تنحي يا حرة فقال أبو بكر فيمن لقيامرأته, فقال: تنحي يا مطلقة أو يا حرة وهو لا يعرفها فإذا هي زوجته أو أمته: لا يقع بهما طلاق ولا حرية لأنه لم يرد بهما ذلك, فلم يقع بهما شيء كسبق اللسان إلى ما لم يرده ويحتمل أن لا تعتق الأمة لأن العادة من الناس مخاطبة من لا يعرفها بقوله: يا حرة وتطلق الزوجة لعدم العادة بالمخاطبة بقوله: يا مطلقة. فأما غير الصريح فلا يقع الطلاق به إلا بنية أو دلالة حال وقال مالك الكنايات الظاهرة, كقوله: أنت بائن وبتة وبتلة, وحرام يقع بها الطلاق من غير نية قال القاضي في " الشرح ": وهذا ظاهر كلام أحمد والخرقي لأنها مستعملة في الطلاق في العرف, فصارت كالصريح ولنا أن هذه كناية لم تعرف بإرادة الطلاق بها ولا اختصت به, فلم يقع الطلاق بها بمجرد اللفظ كسائر الكنايات وإذا ثبت اعتبار النية, فإنها تعتبر مقارنة للفظ فإن وجدت في ابتدائه وعريت عنه في سائره, وقع الطلاق وقال بعض أصحاب الشافعي لا يقع فلو قال: أنت بائن ينوي الطلاق وعريت نيته حين قال: أنت بائن, لا يقع لأن القدر الذي صاحبته النية لا يقع به شيء ولنا أن ما تعتبر له النية يكتفى فيه بوجودها في أوله كالصلاة وسائر العبادات فأما إن تلفظ بالكناية غير ناو, ثم نوى بها بعد ذلك لم يقع بها الطلاق وكما لو نوى الطهارة بالغسل بعد فراغه منه. قال: [ولو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا وأراد به الكذب, لم يلزمه شيء ولو قال: قد طلقتها وأراد به الكذب لزمه الطلاق] إنما لم يلزمه إذا أراد الكذب لأن قوله: ما لي امرأة كناية تفتقر إلى نية الطلاق وإذا نوى الكذب فما نوى الطلاق, فلم يقع وهكذا لو نوى أنه ليس لي امرأة تخدمني أو ترضيني أو إني كمن لا امرأة له, أو لم ينو شيئا لم تطلق لعدم النية المشترطة في الكناية وإن أراد بهذا اللفظ طلاقها طلقت لأنها كناية صحبتها النية وبهذا قال الزهري, ومالك وحماد بن أبى سليمان وأبو حنيفة, والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد: لا تطلق فإن هذا ليس بكناية, وإنما هو خبر هو كاذب فيه وليس بإيقاع ولنا أنه محتمل الطلاق لأنه إذا طلقها فليست له بامرأة, فأشبه قوله: أنت بائن وغيرها من الكنايات الظاهرة وهذا يبطل قولهم فأما إن قال: طلقتها وأراد الكذب طلقت لأن لفظ الطلاق صريح يقع به الطلاق من غير نية وإن قال: خليتها, أو أبنتها افتقر إلى النية لأنه كناية لا يقع به الطلاق من غير نية. فإن قيل له: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم أو قيل له: امرأتك طالق؟ فقال: نعم طلقت امرأته وإن لم ينو وهذا الصحيح من مذهب الشافعي واختيار المزني لأن نعم صريح في الجواب, والجواب الصريح للفظ الصريح صريح ألا ترى أنه لو قيل له: ألفلان عليك ألف؟ فقال: نعم وجب عليه وإن قيل له: طلقت امرأتك؟ فقال: قد كان بعض ذلك وقال: أردت الإيقاع وقع وإن قال: أردت إني علقت طلاقها بشرط قبل لأنه محتمل لما قاله وإن قال: أردت الإخبار عن شيء ماض أو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: قد طلقتها ثم قال: إنما أردت إني طلقتها في نكاح آخر دين فيما بينه وبين الله تعالى فأما في الحكم فإن لم يكن ذلك وجد منه, لم يقبل لأنه لا يحتمل ما قاله وإن كان وجد فعلى وجهين. فإن قال: حلفت بالطلاق أو قال: على يمين بالطلاق ولم يكن حلف, لم يلزمه شيء فيما بينه وبين الله تعالى ولزمه ما أقر به في الحكم ذكره القاضي وأبو الخطاب وقال أحمد, في رواية محمد بن الحكم في الرجل يقول: حلفت بالطلاق ولم يكن حلف: هي كذبة ليس عليه يمين وذلك لأن قوله: له حلفت ليس بحلف, وإنما هو خبر عن الحلف فإذا كان كاذبا فيه لم يصر حالفا, كما لو قال: حلفت بالله وكان كاذبا واختار أبو بكر أنه يلزمه ما أقر به في الحكم وحكي في زاد المسافر عن الميموني عن أحمد أنه قال: إذا قال: حلفت بالطلاق ولم يكن حلف, يلزمه الطلاق ويرجع إلى نيته في الطلاق الثلاث أو الواحد وقال القاضي: معنى قول أحمد: يلزمه الطلاق أي في الحكم ويحتمل أنه أراد يلزمه الطلاق إذا نوى به الطلاق, فجعله كناية عنه ولذلك قال: يرجع إلى نيته أما الذي قصد الكذب فلا نية له في الطلاق فلا يقع به شيء لأنه ليس بصريح في الطلاق, ولا نوى به الطلاق فلم يقع به طلاق كسائر الكنايات وذكر القاضي في كتاب الأيمان, في من قال: حلفت بالطلاق ولم يكن حلف فهل يقع به الطلاق؟ على روايتين. قال: [وإذا وهب زوجته لأهلها فإن قبلوها فواحدة, يملك الرجعة إن كانت مدخولا بها وإن لم يقبلوها فلا شيء] هذا المنصوص عن أحمد في هذه المسألة وبه قال ابن مسعود وعطاء, ومسروق والزهري ومكحول, ومالك وإسحاق وروي عن علي رضي الله عنه والنخعي: إن قبلوها فواحدة بائنة وإن لم يقبلوها فواحدة رجعية وعن زيد بن ثابت, والحسن: إن قبلوها فثلاث وإن لم يقبلوها فواحدة رجعية وروي عن أحمد مثل ذلك وقال ربيعة ويحيى بن سعيد, وأبو الزناد ومالك: هي ثلاث على كل حال قبلوها أو ردوها وقال أبو حنيفة فيها كقوله في الكناية الظاهرة, قبلوها أو ردوها وكذلك قال الشافعي واختلفا ها هنا بناء على اختلافهما ولنا على أنها لا تطلق إذا لم يقبلوها أنه تمليك للبضع, فافتقر إلى القبول كقوله: اختاري وأمرك بيدك وكالنكاح وعلى أنها لا تكون ثلاثا أنه لفظ محتمل, فلا يحمل على الثلاث عند الإطلاق كقوله: اختاري وعلى أنها رجعية أنها طلقة لمن عليها عدة بغير عوض, قبل استيفاء العدد فكانت رجعية كقوله: أنت طالق وقوله: إنها واحدة محمول على ما إذا أطلق النية, أو نوى واحدة فأما إن نوى ثلاثا أو اثنتين, فهو على ما نوى لأنها كناية غير ظاهرة فيرجع إلى نيته في عددها كسائر الكنايات ولا بد من أن ينوي بذلك الطلاق أو تكون ثم دلالة حال لأنها كناية, والكنايات لا بد فيها من النية كذلك قال القاضي: وينبغي أن تعتبر النية من الذي يقبل أيضا كما تعتبر في اختيار الزوجة إذا قال لها: اختاري أو أمرك بيدك إذا ثبت هذا فإن صيغة القبول أن يقول أهلها: قبلناها نص عليه أحمد والحكم في هبتها لنفسها, أو لأجنبي كالحكم في هبتها لأهلها. فإن باع امرأته لغيره لم يقع به طلاق, وإن نوى وبهذا قال الثوري وإسحاق وقال مالك: تطلق واحدة, وهي أملك بنفسها لأنه أتى بما يقتضي خروجها عن ملكه أشبه ما لو وهبها ولنا أن البيع لا يتضمن معنى الطلاق لأنه نقل ملك بعوض, والطلاق مجرد إسقاط لا يقتضي العوض فلم يقع به طلاق كقوله: أطعميني واسقيني. قال: [وإذا قال لها: أمرك بيدك فهو بيدها, وإن تطاول ما لم يفسخ أو يطأها] وجملة ذلك أن الزوج مخير بين أن يطلق بنفسه وبين أن يوكل فيه, وبين أن يفوضه إلى المرأة ويجعله إلى اختيارها بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خير نساءه فاخترنه ومتى جعل أمر امرأته بيدها, فهو بيدها أبدا لا يتقيد ذلك بالمجلس روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الحكم وأبو ثور, وابن المنذر وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: هو مقصور على المجلس, ولا طلاق لها بعد مفارقته لأنه تخيير لها فكان مقصورا على المجلس كقوله: اختاري ولنا, قول علي رضي الله عنه في رجل جعل أمر امرأته بيدها قال: هو لها حتى تنكل ولا نعرف له في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأنه نوع توكيل في الطلاق, فكان على التراخي كما لو جعله لأجنبي وفارق قوله: اختاري فإنه تخيير فإن رجع الزوج فيما جعل إليها, أو قال: فسخت ما جعلت إليك بطل وبذلك قال عطاء ومجاهد والشعبي, والنخعي والأوزاعي وإسحاق وقال الزهري, والثوري ومالك وأصحاب الرأي: ليس له الرجوع لأنه ملكها ذلك, فلم يملك الرجوع كما لو طلقت ولنا أنه توكيل, فكان له الرجوع فيه كالتوكيل في البيع وكما لو خاطب بذلك أجنبيا وقولهم: تمليك لا يصح فإن الطلاق لا يصح تمليكه ولا ينتقل عن الزوج, وإنما ينوب فيه غيره عنه فإذا استناب غيره فيه كان توكيلا لا غير ثم وإن سلم أنه تمليك, فالتمليك يصح الرجوع فيه قبل اتصال القبول به كالبيع وإن وطئها الزوج كان رجوعا لأنه نوع توكيل والتصرف فيما وكل فيه يبطل الوكالة وإن ردت المرأة ما جعل إليها بطل, كما تبطل الوكالة بفسخ الوكيل. ولا يقع الطلاق بمجرد هذا القول ما لم ينو به إيقاع طلاقها في الحال أو تطلق نفسها ومتى ردت الأمر الذي جعل إليها, بطل ولم يقع شيء في قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر, وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومسروق, وعطاء ومجاهد والزهري والثوري والأوزاعي والشافعي وقال قتادة: إن ردت, فواحدة رجعية ولنا أنه توكيل أو تمليك لم يقبله المملك, فلم يقع به شيء كسائر التوكيل والتمليك فأما إن نوى بهذا تطليقها في الحال, طلقت في الحال ولم يحتج إلى قبولها كما لو قال: حبلك على غاربك. قال: [فإن قالت: اخترت نفسي فواحدة, تملك الرجعة] وجملة الأمر أن المملكة والمخيرة إذا قالت: اخترت نفسي فهي واحدة رجعية وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وابن عباس وبه قال عمر بن عبد العزيز, والثوري وابن أبي ليلى والشافعي, وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وروي عن علي أنها واحدة بائنة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لأن تمليكه إياها أمرها يقتضي زوال سلطانه عنها, وإذا قبلت ذلك بالاختيار وجب أن يزول عنها ولا يحصل ذلك مع بقاء الرجعة وعن زيد بن ثابت أنها ثلاث وبه قال الحسن, ومالك والليث إلا أن مالكا قال: إذا لم تكن مدخولا بها قبل منه, إذا أراد واحدة أو اثنتين وحجتهم أن ذلك يقتضي زوال سلطانه عنها ولا يكون ذلك إلا بثلاث وفي قول مالك أن غير المدخول بها يزول سلطانه عنها بواحدة, فاكتفى بها ولنا أنها لم تطلق بلفظ الثلاث ولا نوت ذلك فلم تطلق ثلاثا, كما لو أتى الزوج بالكناية الخفية. وهذا إذا لم تنو أكثر من واحدة فإن نوت أكثر من واحدة وقع ما نوت لأنها تملك الثلاث بالتصريح, فتملكها بالكناية كالزوج وهكذا إن أتت بشيء من الكنايات فحكمها فيها حكم الزوج, إن كانت مما يقع بها الثلاث من الزوج وقع بها الثلاث إذا أتت بها وإن كانت من الكنايات الخفية, نحو قولها: لا يدخل على ونحوها وقع ما نوت قال أحمد: إذا قال لها: أمرك بيدك فقالت: لا يدخل على إلا بإذن تنوى في ذلك إن قالت: واحدة, فواحدة وإن قالت: أردت أن أغيظه قبل منها يعني لا يقع شيء وكذلك لو جعل أمرها في يد أجنبي فأتى بهذه الكنايات لا يقع شيء حتى ينوي الوكيل الطلاق ثم إن طلق بلفظ صريح ثلاثا, أو بكناية ظاهرة طلقت ثلاثا وإن كان بكناية خفية وقع ما نواه. وقوله: أمرك بيدك وقوله: اختاري نفسك كناية في حق الزوج, يفتقر إلى نية أو دلالة حال كما في سائر الكنايات فإن عدم لم يقع به طلاق لأنه ليس بصريح, وإنما هو كناية فيفتقر إلى ما يفتقر إليه سائر الكنايات وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك: لا يفتقر إلى نية لأنه من الكنايات الظاهرة, وقد سبق الكلام معه فيها وهو أيضا كناية في حق المرأة إن قبلته بلفظ الكناية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يفتقر وقوع الطلاق إلى نيتها إذا نوى الزوج لأن الزوج علق الطلاق بفعل من جهتها, فلم يفتقر إلى نيتها كما لو قال: إن تكلمت فأنت طالق فتكلمت وقال: لا يقع إلا واحدة بائن وإن نوت ثلاثا لأن ذلك تخيير, والتخيير لا يدخله عدد كخيار المعتقة ولنا أنها موقعة للطلاق بلفظ الكناية, فافتقر إلى نيتها كالزوج وعلى أنه يقع الثلاث إذا نوت أن اللفظ يحتمل الثلاث لأنها تختار نفسها بالواحدة, وبالثلاث فإذا نوياه وقع كقوله: أنت بائن. قال: [وإن طلقت نفسها ثلاثا, وقال: لم أجعل إليها إلا واحدة لم يلتفت إلى قوله والقضاء ما قضت] وممن قال: القضاء ما قضت عثمان وابن عمر, وابن عباس وروي ذلك عن علي وفضالة بن عبيد وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء, والزهري وعن عمر وابن مسعود: أنها تطليقة واحدة وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم, وربيعة ومالك والأوزاعي والشافعي وقال الشافعي: إن نوى ثلاثا, فلها أن تطلق ثلاثا وإن نوى غير ذلك لم تطلق ثلاثة, والقول قوله في نيته قال القاضي: ونقل عبد الله عن أحمد ما يدل على أنه إذا نوى واحدة فهي واحدة لأنه نوع تخيير, فيرجع إلى نيته فيه كقوله: اختاري ولنا أنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها لأنه اسم جنس مضاف, فيتناول الطلقات الثلاث كما لو قال: طلقي نفسك ما شئت ولا يقبل قوله: أردت واحدة لأنه خلاف ما يقتضيه اللفظ ولا يدن في هذا لأنه من الكنايات الظاهرة, والكنايات الظاهرة تقتضي ثلاثا.
|